فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}
تقدم القول في لفظ الآية الأولى، واختلفت القراءة في إعراب الصفات في آخرها.
فقرأ جمهور الناس: {الملكِ} بالخفض نعتًا {لله}، وكذلك ما بعده، وقرأ أبو وائل شقيق بن سلمة وأبو الدينار: {الملكُ} بالرفع على القطع، وفتح أبو الدينار القاف من {القَدوس}، و{الأميين}: يراد بهم العرب، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتابًا، قيل هو منسوب إلى الأم، أي هو على الخلقة الأولى في بطن أمه، وقيل هو منسوب إلى الأمة، أي على سليقة البشر دون تعلم، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهذا ضعيف، لأن الوصف بـ: {الأميين} على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا».
وهذه الآية تعديد نعمة الله عندهم فيما أولاهم، والآية المتلوة: القرآن {يزكيهم} معناه: يطهرهم من الشرك وينمي الخير فيهم، و{الكتاب}: الوحي المتلو، {والحكمة}: السنة التي هي لسانه عليه السلام، ثم أظهر تعالى تأكيد النعمة بذكر حالهم التي كانت في الضد من الهداية، وذلك في قوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}، {وآخرين} في موضع خفض عطفًا على {الأميين} وفي موضع نصب عطفًا على الضمائر المتقدمة.
واختلف الناس في المعنيين بقوله: {وآخرين} من هم؟ فقال أبو هريرة وغيره: أراد فارسًا، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الآخرون؟ فأخذ بيد سلمان وقال: «لو كان الدين في الثريا لناله رجال من هؤلاء». أخرجه مسلم. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: أراد الروم والعجم، فقوله تعالى: {منهم} على هذين القولين: إنما يريد في البشرية والإيمان كأنه قال: وفي آخرين من الناس: وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل: أراد التابعين من أبناء العرب، فقوله: {منهم} يريد به النسب والإيمان، وقال ابن زيد ومجاهد والضحاك وابن حبان: أراد بقوله: {وآخرين} جميع طوائف الناس، ويكون منهم في البشرية والإيمان على ما قلناه وذلك أنا نجد بعثه عليه السلام إلى جميع الخلائق، وقال ابن عمر لأهل اليمن: أنتم هم، وقوله تعالى: {لما يلحقوا} نفي لما قرب من الحال، والمعنى أنهم مزمعون أن يلحقوا فهي (لم) زيدت عليها (ما) تأكيدًا. قال سيبويه (لما) نفي قولك قد فعل، و(لن) قولك فعل دون قد، وقوله تعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} الآية، تبيين لموقع النعمة، وتخصيصه إياهم بها.
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}
{الذين حملوا التوراة} هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و{حملوا} معناه: كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها، فهذا كمال حمل الإنسان الأمانة، وليس ذلك من الحمل على الظهر، وإن كان مشتقًا منه، وذكر تعالى أنهم {لم يحملوها}، أي لم يطيعوا أمرها، ويقفوا عند حدها حين كذبوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، و{التوراة} تنطق بنبوته، فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار، فهي عنده والزبل وغير ذلك بمنزلة واحدة، وقرأ يحيى بن يعمر: {حَمَلوا} بفتح الحاء والميم مخففة، وقرأ المأمون العباسي: {يُحَمَّل أسفارًا} بضم الياء وفتح الحاء وشد الميم مفتوحة، وفي مصحف ابن مسعود: {كمثل حمار} بغير تعريف، والسفر: الكتاب المجتمع الأوراق منضودة، ثم بين حال مثلهم وفساده بقوله تعالى: {بئس مثل القوم} وقوله تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم} الآية، روي أنها نزلت بسبب أن يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا يهود خيبر في أمره، وذكروا لهم نبوته، وقالوا: إن رأيتم اتباعه أطعناكم وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون: نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن، وأبناء عُزيْر ابن الله ومنا الأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب، نحن أحق بالنبوة من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت الآية بمعنى: أنكم إذا كنتم من الله تعالى بهذه المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الحسية أحب إليكم {فتمنوا الموت} إن كنتم تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة، أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يتمنونه ولا يلقونه إلا كرهًا لعلمهم بسوء حالهم عند الله وبعدهم منه. هذا هو المعنى اللازم من ألفاظ الآية، وروى كثير من المفسرين أن الله تعالى جعل هذه الآية معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وآية باهرة، وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودة مات وفارق الدنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمنوا الموت» على جهة التعجيز وإظهار الآية، فما تمناه أحد خوفًا من الموت، وثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، ثم توعدهم تعالى بالموت الذي لا محيد لهم عنه، ثم بما بعده من الرد إلى الله تعالى، وقرأ ابن مسعود: {منه ملاقيكم} بإسقاط {فإنه}، وقوله تعالى: {فينبئكم} أي إنباء معاقب مجاز عليه بالتعذيب، وقرأ ابن أبي إسحاق {فتمنوا الموت} بكسر الواو وكذلك يحيى بن يعمر. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض}
تسبيحًا مُستمِرًَّا {الملك القدوس العزيز الحكيم} وَقَدْ قرئ الصفاتُ الأربعُ بالرَّفعِ عَلَى المدحِ {هُوَ الذي بَعَثَ في الأميين} أيْ في العربِ لأنَّ أكثرَهُمْ لا يكتبونَ ولا يقرأونَ قيلَ بدئتْ الكتابةُ بالطَّائفِ أخذُوها منْ أهلِ الحيرةِ وهُمْ من أهلِ الأنبارِ {رَسُولًا مّنْهُمْ} أيْ كائنًا منْ جُملتِهِم أميًا مثلَهُم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته} مَعَ كونِهِ أميًا مثلَهُم لَم يُعهدْ منْهُ قراءة ولا تعلمٌ {وَيُزَكّيهِمْ} صفةٌ أُخرى لرسولًا معطوفةٌ عَلَى يتلُوا أيْ يحملُهُم عَلى ما يصيرُونَ به أزكياءَ مِن خبائثِ العقائدِ والأعمالِ {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} صفةٌ أُخْرَى لرسولًا مترتبةٌ في الوجودِ عَلَى التِّلاوةِ وإنَّما وَسَّطَ بينَهُما التزكيةَ التي هيَ عبارةٌ عنْ تكميلِ النفسِ بحسبِ قوتِهَا العمليةِ وتهذيبِهَا المتفرعِ عَلَى تكميلِهَا بحسبِ القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليمِ المترتبِ على التلاوةِ للإيذانِ بأنَّ كلًا منَ الأمورِ المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا مستوجبةٌ للشكرِ فَلَو رُوعِي ترتيبَ الوجودِ لتبادرَ إلى الفهمِ كونُ الكُلِّ نعمةً واحدةً كمَا مَرَّ في سورةِ البقرةِ وهُوَ السِرُّ في التعبيرِ عن القرآن تارةً بالآياتِ وَأُخْرَى بالكتابِ والحكمةِ رمزًا إلى أنَّه باعتبارِ كُلِّ عنوانٍ نعمةٌ عَلى حدةٍ ولا يقدحُ فيهِ شمولُ الحكمةِ لِمَا في تضاعيفِ الأحاديثِ النبويةِ منَ الأحكامِ والشرائعِ {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} لـ: {في ضلال مُّبِينٍ} منَ الشركِ وخبث الجاهليةِ وهو بيانٌ لشدةِ افتقارِهِم إلى مَنْ يرشدهُم وإزاحةٌ لِمَا عَسَى يتوهمُ منْ تعلُّمِهِ عليهِ الصلاةُ والسلام منَ الغيرِ، وإنْ هيَ المخفقةُ واللامُ هيَ الفارقةُ {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ} عطفٌ على الأميينَ أوْ عَلى المنصوبِ في يعلِّمُهُم أيْ يعلِّمُهُم ويعلِّمُ آخرينَ منهُم أيْ من الأميينَ وهُم الذينَ جَاءُوا بعدَ الصحابةِ إلى يومِ الدِّينِ فإنَّ دعوتَهُ عليهِ الصلاةُ والسلام وتعليمَهُ يعمُّ الجميعَ {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} صفةٌ لآخرينَ أيْ لمْ يلحقُوا بهمْ بعدُ وسيلحقونَ {وَهُوَ العزيز الحكيم} المبالغُ في العزةِ والحكمةِ ولذلكَ مكَّنَ رجلًا أميًا منْ ذلكَ الأمرِ العظيمِ واصطفاهُ منْ بينِ كافةِ البشرِ.
{ذلك} الذي امتازَ بهِ منْ بينِ سائرِ الأفرادِ {فَضَّلَ الله} وأحسانُهُ {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} تفضلًا وعطيةً {والله ذُو الفضل العظيم} الذي يُستحقَرُ دُونَهُ نعيمُ الدُّنيا ونعيمُ الآخرةِ.
{مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} أي عُلِّمُوهَا وكُلِّفُوا العملَ بهَا {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أيْ لَمْ يعملُوا بِمَا في تضاعِيفِها منَ الآياتِ التي منْ جُملتِها الآياتُ الناطقةُ بنبوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَارًا} أيْ كتبًا منَ العلمِ يتعبُ بحملِهَا ولا ينتفعُ بهَا، ويحملُ إمَّا حالٌ والعاملُ فيهَا مَعْنَى المَثلِ أو صفةٌ للحمارِ إذْ ليسَ المرادُ بهِ معينًا فهُو في حكمِ النكرةِ كمَا في قول مَنْ قال:
وَلَقَدْ أمرُّ عَلى اللئيمِ يَسُبُّنِي

{بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآيات الله} أيْ بئسَ مثلًا مثلُ القومِ الذينَ كذَّبُوا بآياتِ الله، عَلى أنَّ التمييزَ محذوفٌ والفاعلَ المُفسَّرَ بهِ مستترٌ. ومثلُ القومِ هُو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ للقومِ. أو بئسَ مثلُ القومِ مثلُ الذينَ كذَّبوا إلخ على أنَّ مثلُ القومِ فاعلُ بئسَ والمخصوصُ بالذمِّ الموصولُ بحذفِ المضافِ أو بئسَ مثلُ القومِ المكذبينَ مثلُ هؤلاءِ على أنَّ الموصولَ صفةُ القومِ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ وهم اليهودُ الذينَ كذَّبُوا بمَا في التوراةِ من الآياتِ الشاهدةِ بصحةِ نبوةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} الواضعينَ للتكذيبِ في موضعِ التصديقِ أو الظالمينَ لأنفسِهِم بتعريضِهَا للعذابِ الخالِدِ.
{قُلْ يا أيها الذين هَادُواْ} أي تهودُوا {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} كانُوا يقولونَ نحنُ أبناءُ الله وأحباؤُه ويَدَّعُونَ أنَّ الدارَ الآخرةَ لهُمْ عندَ الله خالصةً ويقولونَ لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ منْ كانَ هُودًا فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يقول لهُم إظهارًا لكذبِهِمْ إنْ زعمتُم ذلكَ {فَتَمَنَّوُاْ الموت} أيْ فتمنَّوا منَ الله أنْ يميتَكُم وينقُلَكُم منْ دارِ البليةِ إلى دارِ الكرامةِ {إِن كُنتُمْ صادقين} جوابُهُ محذوفٌ لدلالةِ مَا قبلَهُ عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقينَ في زَعْمِكُم واثقينَ بأنَّه حقٌّ فتمنَّوا الموتَ فإنَّ مَنْ أيقنَ بأنَّهُ مِنْ أهلِ الجنةِ أحبَّ أنْ يتخلصَ إلَيها منْ هذهِ الدارِ التي هيَ قرارةُ الأكدارِ {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَدًا} إخبارٌ بِما سيكونُ منهُم والباءُ في قولهِ تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ النفيُ أيْ يأبونَ التمنِّي بسببِ ما عملُوا من الكفرِ والمعاصِي الموجبةِ لدخولِ النارِ ولما كانتِ اليدُ من بينِ جوارحِ الإنسانِ مناطَ عامَّةِ أفاعيله عبَّرَ بها تارةً عن النفسِ وأُخرى عنِ القدرةِ {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أيْ بهِم، وإيثارُ الإظهارِ على الإظمارِ لذمِّهم والتسجيلِ عليهِم بأنَّهم ظالمونَ في كُلِّ ما يأتونَ وما يذرونَ من الأمورِ التي منْ جُملتِهَا ادعاءُ ما هُمْ عنْهُ بمعزلٍ، والجملة تذييلٌ لما قبلَها مقررةٌ لمضمونِهِ أيْ عليمٌ بهِم وبِمَا صدَرَ عَنْهُم من فنونِ الظلمِ والمعَاصِي المفضيةِ إلى أفانينِ العذابِ وبِمَا سيكونُ منهُم منَ الاحترازِ عَمَّا يؤدِّي إلى ذلكَ فوقعَ الأمرُ كما ذكرَ فلم يتمنَّ منهُم موتَهُ أحدٌ كَما يعربُ عَنْهُ قولهُ تعالى: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} فإنَّ ذلكَ إنَّما يقال لهُم بعدَ ظهورِ فرارِهِم منَ التمنِّي وقدْ قال عليهِ الصلاةُ والسلام: «لَوْ تمنَّوا لماتُوا منْ ساعتِهِم» وهذهِ إحدَى المعجزاتِ أيْ إنَّ الموتَ الذي تفرونَ منهُ ولا تجسَرونَ عَلى أنْ تتمنَّوهُ مخافةَ أنْ تُؤخذُوا بوبالِ كفرِكُم {فَإِنَّهُ ملاقيكم} ألبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ والفاءِ لتضمنِ الاسم مَعْنَى الشرطِ باعتبارِ الوصفِ وقرئ بدونِهَا وقرئ {تفرونَ منْهُ مُلاقِيكُم} {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} الذي لا تخفى عليهِ خافيةٌ {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} منَ الكفرِ والمعاصِي بأنْ يجازيَكُم بهَا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض}
قد تقدم تفسير هذا في أوّل سورة الحديد، وما بعدها من المسبحات {الملك القدوس العزيز الحكيم} قرأ الجمهور بالجرّ في هذه الصفات الأربع على أنها نعت لـ: {لله}، وقيل: على البدل، والأوّل أولى.
وقرأ أبو وائل بن محارب، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ.
وقرأ الجمهور: {القدوس} بضم القاف، وقرأ زيد بن علي بفتحها، وقد تقدم تفسيره.
{هُوَ الذي بَعَثَ في الأميين رَسُولًا مّنْهُمْ} المراد بالأميين: العرب، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، والأميّ في الأصل: الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وكان غالب العرب كذلك، وقد مضى بيان معنى الأميّ في سورة البقرة، ومعنى {مِنْهُمْ}: من أنفسهم، ومن جنسهم، ومن جملتهم، وما كان حيّ من أحياء العرب إلاّ ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، ووجه الامتنان بكونه منهم أن ذلك أقرب إلى الموافقة؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته} يعني: القرآن مع كونه أميًا لا يقرأ ولا يكتب، ولا تعلم ذلك من أحد، والجملة صفة لـ: {رسولًا}، وكذا قوله: {وَيُزَكّيهِمْ} قال ابن جريج، ومقاتل: أي: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب، وقال السديّ: يأخذ زكاة أموالهم، وقيل: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} هذه صفة ثالثة لـ: {رسولًا}، والمراد بالكتاب: القرآن، وبالحكمة: السنة، كذا قال الحسن.
وقيل: الكتاب: الخط بالقلم، والحكمة: الفقه في الدين، كذا قال مالك بن أنس {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لفي ضلال مُّبِينٍ} أي: وإن كانوا من قبل بعثته فيهم في شرك وذهاب عن الحق.
{وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ} معطوف على الأميين أي: بعث في الأميين، وبعث في آخرين منهم {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} ذلك الوقت، وسيلحقون بهم من بعد، أو هو معطوف على المفعول الأوّل في {يعلمهم}، أي: ويعلم آخرين، أو على مفعول {يزكيهم}، أي: يزكيهم ويزكي آخرين منهم، والمراد بالآخرين: من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل: المراد بهم من أسلم من غير العرب.
وقال عكرمة: هم التابعون.
وقال مجاهد: هم الناس كلهم، وكذا قال ابن زيد، والسديّ، وجملة: {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} صفة لـ: {آخرين}، والضمير في {منهم} و{لهم} راجع إلى الأميين، وهذا يؤيد أن المراد بالآخرين هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة، وهو صلى الله عليه وسلم، وإن كان مرسلًا إلى جميع الثقلين، فتخصيص العرب ها هنا لقصد الامتنان عليهم، وذلك لا ينافي عموم الرسالة، ويجوز أن يراد بالآخرين: العجم؛ لأنهم وإن لم يكونوا من العرب فقد صاروا بالإسلام منهم، والمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي: بليغ العزة والحكمة، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره.
وقال الكلبي: يعني: الإسلام.
وقال قتادة: يعني: الوحي والنبوّة.
وقيل: إلحاق العجم بالعرب، وهو مبتدأ، وخبره {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} أي: يعطيه من يشاء من عباده {والله ذُو الفضل العظيم} الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه.
{مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلًا فقال: {مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} أي: كلفوا القيام بها والعمل بما فيها {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي: لم يعملوا بموجبها، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَارًا} هي جمع سفر، وهو الكتاب الكبير؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ.
قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل؟ فهكذا اليهود.
وقال الجرجاني: هو يعني: حملوا من الحمالة بمعنى الكفالة أي: ضمنوا أحكام التوراة، وقوله: {يَحْمِلُ} في محلّ نصب على الحال، أو صفة للحمار، إذ ليس المراد به حمارًا معينًا، فهو في حكم النكرة، كما في قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ** فمضيت ثم وقلت لا يعنيني

{بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآيات الله} أي: بئس مثلًا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، على أن التمييز محذوف، والفاعل المفسر به مضمر، و{مثل القوم} هو المخصوص بالذم، أو {مثل القوم} فاعل {بئس}، والمخصوص بالذمّ الموصول بعده على حذف مضاف، أي: مثل الذين كذبوا، ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم، فيكون في محل جرّ، والمخصوص بالذمّ محذوف، والتقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} يعني: على العموم، فيدخل فيهم اليهود دخولًا أوّليًا.
{قُلْ يأيها الذين هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} المراد: بالذين هادوا الذين تهوّدوا، وذلك أن اليهود ادّعوا الفضيلة على الناس، وأنهم أولياء الله من دون الناس، كما في قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] فأمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم لما ادّعوا هذه الدعوى الباطلة {فَتَمَنَّوُاْ الموت} لتصيروا إلى ما تصيرون إليه من الكرامة في زعمكم {إِن كُنتُمْ صادقين} في هذا الزعم، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحبّ الخلوص من هذه الدار.
قرأ الجمهور: {فتمنوا} بضم الواو، وقرأ ابن السميفع بفتحها تخفيفًا، وحكى الكسائي إبدال الواو همزة، ثم أخبر الله سبحانه أنهم لا يفعلون ذلك أبدًا بسبب ذنوبهم فقال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} أي: بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي، والتحريف والتبديل {والله عَلِيمٌ بالظالمين} يعني: على العموم، وهؤلاء اليهود داخلون فيهم دخولًا أوّليًا.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم بأن الفرار من الموت لا ينجيهم، وأنه نازل بهم، فقال: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم} لا محالة، ونازل بكم بلا شك، والفاء في قوله: {فَإِنَّهُ} داخلة لتضمن الاسم معنى الشرط، قال الزجاج: لا يقال: إن زيدًا فمنطلق، وها هنا قال: فإنه ملاقيكم لما في معنى الذي من الشرط والجزاء، أي: إن فررتم منه، فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، وقيل: إنها مزيدة، وقيل: إن الكلام قد تمّ عند قوله: {تَفِرُّونَ مِنْهُ} ثم ابتدأ فقال: {فَإِنَّهُ ملاقيكم ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} وذلك يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الأعمال القبيحة، ويجازيكم عليها.
وقد أخرج ابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن عطاء بن السائب عن ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية: {يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} أوّل سورة الجمعة.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وأخرج البخاري، وغيره عن أبي هريرة قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي، وقال: «والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» وأخرجه أيضًا مسلم من حديثه مرفوعًا بلفظ: «لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال من فارس، أو قال: من أبناء فارس» وأخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس» وأخرج الطبراني، وابن مردويه، والضياء عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالًا ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب»، ثم قرأ {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} قال: الدين.
وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه {مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} قال: اليهود.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {أَسْفَارًا} قال: كتبًا. اهـ.